فصل: الشاهد السادس والسبعون بعد المائتين(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الثالث والسبعون بعد المائتين

الطويل

وما الدّهر إلا منجوناً بأهله *** وما صاحب الحاجات إلاّ معذبا

على أن يونس استدلّ به على إعمال ما مع انتقاض نفيها ب إلاّ ‏.‏

وأجيب بأن المضاف محذوف من الأوّل، أي‏:‏ يدور دوران منجنون، ويدور خبر المبتدأ، فحذف هو والمصدر وأقيم منجنون مقام المصدر‏.‏

وأنّ الثاني أصله وما صاحب الحاجات إلاّ يعذّب معذّباً، أي‏:‏ تعذيباً، ف يعذّب خبر المبتدأ، فحذف وبقي مصدره‏.‏ فلا عمل لما في الوضعين‏.‏

وخرّجه صاحب اللب على أنّه بتقدير‏:‏ وما الدّهر إلاّ يشبه منجنونا، وما صاحب الحاجات إلاّ يشبه معذباً، فهما منصوبان بالفعل الواقع خبراً؛ ومعذّب على هذا اسم مفعول، وهذا أقلّ كلفةً‏.‏

وقال شارح اللبّ السيّد عبد الله‏:‏ ويجوز أن يكون - أي منجنونا - منصوباً على الحال والخبر محذوف، أي‏:‏ وما الدّهر موجوداً إلاّ مثل المنجنون، لا يستقرّ في حاله‏.‏ وعلى هذا تكون عاملة قبل انتفاض نفيها‏.‏ وكذا يكون التقدير في الثاني، أي‏:‏ وما صاحب الحاجات موجوداً إلاّ معذّباً‏.‏ ولا تقدّر هنا مثل، لأنّ الثاني هو الأوّل‏.‏

وقال ابن هشام في شرح شواهده‏:‏ وجوّز ابن بابشاذ أن يكون الأصل‏:‏ إلاّ كمنجنون، ثم حذف الجارّ فانتصب المجرور‏.‏ ومن زعم أن كاف التشبيه لا يتعلق بشيء فهذا التخريج عنده باطل،إذ كان حقه أن يرفع المجرور بعد حذفها، لأنّه كان في محلّ رفع على الخبريّة، لا في موضع رفع باستقرارٍ مقدّر؛ فإذا ذهب الجارّ ظهر ما كان للمحلّ‏.‏ انتهى‏.‏

وعندي أن يكون من قبيل تاويل من قر‏:‏ ونحن عصبةً بالنصب، أي‏:‏ نرى عصبة‏.‏ والظاهر أن هذا اسهل‏.‏

ورواية البيت كذا هي الرواية المشهورة، ورواه ابن جنّي في المحتسب عند قراءة ابن مسعود‏:‏ إن كلّ إلاّ ليوفينهم من سورة هود‏:‏

أرى الدّهر إلاّ منجنوناً بأهله *** وما طالب الحاجات إلاّ معلّلا

قال‏:‏ معنى هذه القراءة ما كلّ إلاّ والله ليوفينهم، كقولك‏:‏ ما زيد إلاّ لأضربنه، أي‏:‏ ما زيد إلاّ مستحقٌ لن يقال فيه هذا‏.‏ ويجوز فيه وجه ثان‏:‏ وهو أن تكون إن مخفّفة من الثقيلة وتجعل إلاّ زائدة‏.‏ وقد جاء عنهم ذلك، قال‏:‏ أرى الدّهر إلا منجنوناً البيت أي‏:‏ الدّهر منجنوناً بأهله يتقلّب بهم، فتارة يرفعهم، وتارة يخفضهم‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن هشام في المغني‏:‏ إنّما المحفوظ‏:‏ وما الدّهر‏.‏ ثم إنّ ثبتت روايته فيتخرج على أنّ أرى جوابٌ لقسم مقدّر وحذفت لا، كحذفها في‏:‏ تالله تفتؤ تذكر ، ودلّ على ذلك الاستثناء المفرغ‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا البيت نسبه ابن جنيّ في كتاب ذا القد لبعض العرب‏.‏ والمنجنون‏:‏ الدولاب الذي يستقى؛ وهو مؤنث‏.‏ قال ابن جنيّ في شرح تصريف المازنيّ المسمّى بالمنصف‏:‏ ليس منجنون من دوات الخمسة، هذا محال، لأجل تكرير النون، وإنما هو مثل حندقوق ملحق بعضر فوط‏.‏ ولا يجوز أن تكون الميم زائدة‏:‏ لأنّا لا نعلم في الكلام مفعلولا ولا يجوز أن تكون الميم والنون جميعاً زائدتين، علة أن تكون الكلمة ثلاثية من لفظ الجنّ، من جهتين‏.‏

إحداهما‏:‏ أنك كنت تجمع في أول الكلمة زيادتين وليس الكلمة جارية على عفل مثل منطلق ومستخرج‏.‏

والأخرى‏:‏ أنّا لا نعلم في الكلام منفعولا فيحمل هذا عليه‏.‏ ولا يجوز أيضاً أن تكون النون وحدها زائدة‏:‏ لأنها قد ثبتت في الجمع في قولهم‏:‏ مناجين، ولو كانت زائدة لقيل مجاجين، فإذا لم يجز أن تكون الميم وحدها زائدة، ولا النون وحدها زائدة، ولا أن يكونا كلتاهما زائدتين؛ لم يجز إلاّ أن يكونا أصلين وتجعل النون لاماً مكرّرة، وتكون الكلمة مثل حندقوق بعضر فوط‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الرابع والسبعون بعد المائتين

وهو من شواهد س‏:‏ البسيط

فأصبحوا قد أعاد الله دولتهم *** إذ هم قريشٌ وإذ ما مثلهم بشر

بأن سيبويه حكى أن بعض الناس ينصب مثلهم خبراً ل ما ، وبشر اسمها ‏.‏ وهذا لا يكاد يعرف‏.‏ وقيل‏:‏ إن خبر ما محذوف، أي‏:‏ إذ ما في الدنيا بشر، ومثلهم حال من بشر، وانتصابه عند الكوفيّين على الظرف، أي‏:‏ في مثل حالهم، وفي مثل مكانهم من الرفعة‏.‏

قول سيبويه مبني على إعمال ما، والقولان بعده مبنيّان على إهمالها، قال سيبويه‏:‏ وهذا لا يكاد يعرف، كما أنّ لات حين مناص ك ذلك‏.‏ وربّ شيء هكذا‏.‏

قال السّيرافيّ‏:‏ يعني أنّ نصب مثلهم بشر على تقديم الخبر قليل، كما أنّ لات حين مناص بالرفع قليل لا يكاد يعرف انتهى‏.‏

وقال أبو جعفر النحّاس‏:‏ يذهب سيبويه إلى أنّه نصب مثلهم على أنّه خبر وإن كان مقدماً، فكأنه يجيز ما قائماً زيد‏.‏ أقول‏:‏ كيف ينصبونه مقدماً‏؟‏ قال النحّاس‏:‏ سألت أبا إسحاق عمّا قاله المبرّد فقال‏:‏ إنّه لعمري من بني تميم‏.‏ ولكنه مسلم قد قرأ القرآن، وقرأ فيه‏:‏ ما هنّ أمّهاتهم فرجع إلى لغة من ينصب، فلا معنى للتشنيع بأنه من بني تميم‏.‏ انتهى‏.‏

أقول‏:‏ من نصب لا ينصب مع تقدّم الخبر، فلا يصحّ هذا جواباً‏.‏ وقيل‏:‏ أراد الفرزدق أن يتكلّم بلغة الحجاز فغلط، وهذا باطل؛ فإن العربيّ لا يمكن أن يغلط لسانه، وإنما الجائز غلطه في المعاني‏.‏

وقال الأعلم‏:‏ والذي حمله عليه سيبويه أصحّ عندي وإن كان الفرزدق تميمياً‏:‏ لأنّه أراد أن يخلّص المعنى من الاشتراك‏:‏ وذلك أنه لو قال فيه إذ ما مثلهم بشر بالرفع لجاز أن يتوهّم أنه من باب ما مثلك أحداً، إذا نفيت عنه الإنسانية والمروءة، فإذا قال‏:‏ ما مثلهم بشر بالنصب لم يتوهم ذلك وخلص المعنى للمدح دون توهّم الذمّ فتأمّله تجده صحيحاً‏.‏

والشعر موضع ضرورة؛ ويحتمل فيه وضع الشيء في غير موضعه دون إحراز فائدة، فكيف مع وجود ذلك‏.‏ وسيبويه ممن يأخذ بتصحيح المعاني وإن اختلفت الألفاظ، فكذلك وجّهه على هذا وإن كان غيره أقرب إلى القياس‏.‏ انتهى‏.‏

يريد بتخليص المدح أنك إذا قلت ما مثلك أحداً فنفيت الأحديّة احتمل المدح والذمّ، فإن نصبت المثلّ ورفعت أحداً تعين المدح‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن هشام في شرح شواهده‏:‏ وفيه نظر، فإنّ السياق يعيّن الكلام للمدح‏.‏

وقال في الردّ على المبرد أحمد بن محمد بن ولاّد‏:‏ إنّ الرّواة عن الفرزدق وغيره من الشعراء قد تغير البيت على لغتها‏.‏ وترويه على مذاهبها، مما يوافق لغة الشاعر ويخالفها، ولذلك كثرت الروايات في البيت الواحد‏.‏

ألا ترى أنّ سيبويه قد يستشهد ببيتٍ واحد لوجوهٍ شتّى‏؟‏‏؟‏‏!‏ وإنّما ذلك على حيب ما غيّرته الرّواة بلغاتها، لأن لغة الراوي من العرب شاهدٌ، كما أنّ قول الشاعر شاهد، إذا كانا فصيحين‏.‏ فمن ذلك ما أنشده سيبويه‏:‏ الطويل

بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى *** ولا سابقٍ شيئاٍ إذا كان جائيا

ورواه أيض‏:‏ ولا سابقاً في موضع آخر‏.‏ وكذلك قول الأعور الشّنّيّ‏:‏ المتقارب

فليس يآتيك منهيه *** ولا قاصرٌ عنك مأمورها

بالرفع والجر‏.‏ وهذا كثير جداً‏.‏ انتهى‏.‏

وفيه أنّ بيت الفرزدق ليس على لغة الحجاز ولا على لغة تميم وغيرها فكيف يكون من قبيل لغة الراوي‏!‏ فتأمّل‏.‏

والقول الأوّل من القولين هو المازنيّ، وتبعه المبرّد وقال‏:‏ كأنّمثلهم صفةٌ لبشر فلمّا قدّم عليه صار حالاً‏.‏

قال السيد عبد الله في شرح اللب‏:‏ وفيه نظر لأنّ الحال فضلة يتمّ الكلام بدونها، وهاهنا لا يتمّ الكلام بدون مثلهم، فلا يكون حالاً‏.‏

وردّه ابن هشام أيضاً في شرح شواهده بأنّ معاني الأفعال لا تعمل مضمرة‏.‏ والكوفّيون القائلون بنصب مثل على الظرف يقولون‏:‏ اصله ما بشر في مكانٍ مثل مكانهم، ثم أنيبت الصفة عن الموصوف، والمضاف إليه عن المضاف‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وردّ بأنّ الصفة إنّما تخلف الموصوف إذا اختصّت بجنسه؛ ولهذا جاز رأيت كاتباً، وامتنع رأيت طويلاً‏.‏

وبقي تخريج آخر لم يذكره الشارح المحقق، وهو أنّ مثلهم خبر ما التميميّة، لكن بني مثل على الفتح إضافته إلى مبنّي؛ فإنّ المضاف إذا كان مبهماً كغير، ومثل، ودون، واضيف إلأى مبنيّ بني كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّه لحقٌّ مثل ما أنكم تنطقون فيمن فتح مثل، وكقراءة بعضهم‏:‏ أن يصيبكم مثل ما أصاب بالفتح‏.‏ وهذا أقرب الأقوال‏.‏

وزعم ابن مالك أنّ ذلك لا يكون في مثل، لمخالفتها للمبهمات بأن تثنّى وتجمع‏.‏

وقوله‏:‏ إذ هم قريش الخ ، إذ في الموضعين للتعليل‏.‏ وبه استشهد ابن هشام في هذا البيت في المغني ‏.‏

وهذا البيت من قصيدة للفرزدق يمدح بها عمر بن عبد العزيز الأموي‏.‏ وهذه أبيات منه‏:‏ البسيط

تقول لمّا رأتني وهي طيّبةٌ *** على الفراش ومنها الدّلّ والخفر

أصدر همومك لا يقتلك وارده *** فكلّ واردةٍ يوماً لها صدر

إلى أن قال‏:‏

فعجنتها قبل الأخيار منزلةً *** والطّيّبي كلّ ما التأثت بها الأزر

إذا رجا الركب تعريساً ذكرت لهم *** عيشاً يكون على الأيدي له درر

وكيف ترجون تغميضاً وأهلكهم *** بحيث تلحس عن أولادها البقر

سيروا فإنّ ابن ليلى عن أمامكم *** وبادروه فإن العرف يبتدر

إلى أن قال‏:‏

وما أعيد لهم حتّى أتيتهم *** أزمان مروان إذ في وحشها غرر

فأصبحوا قد أعاد الله دولتهم *** إذ هم قريشٌ وإذ ما مثلهم بشر

ولن يزال إمامٌ منهم ملكٌ *** إليه يشخص فوق المنبر البصر

إن عاقبوا فالمنايا من عقوبتهم *** وإن عفوا فذوو الأحلام إن قدروا

قوله‏:‏ ومنها الدلّ والخفر ، الدلّ بفتح الدال‏:‏ مصدر دلّت المرأة من بابي ضرب وتعب‏.‏ وتدللّت تدلّلاً؛ والاسم الدّلال وهو جرأتها في تكسر وتغنج، كأنها مخالفة وليس بها خلاف‏.‏ كذا في المصباح ‏.‏ والخفر ، بفتح المعجمة، وهو شدّة الحياء‏.‏

وقوله‏:‏ أصدر همومك ، أي‏:‏ اصرفها عنك، يقال‏:‏ صدر القوم وأصدرناهم إذا صرفتهم‏.‏

وقوله‏:‏ فكل واردة ، تعليل لقوله أصدر‏.‏

وقوله‏:‏ فعجتها قبل الأخيار الخ ، يقال‏:‏ عجت النّاقة أعوجها‏:‏ إذا عطفت رأسها بالزمام؛ والضمير للناقة‏.‏ والقبل ، بكسر القاف وفتح الموحّدة‏:‏ الجهة‏.‏ ومنزلة تمييز‏.‏ والطيّبي‏:‏ معطوف على الأخيار وهو جمع مذكّر حذفت نونه للإضافة، والمفرد طيّب‏.‏ والتأثت‏:‏ التّفت؛ يقال‏:‏ لاث عمامته يلوثها، إذا لفّها على رأسه‏.‏ وضمير بها لما الموصولة‏.‏ والأزر‏:‏ جمع إزار، وهو ما يستر من السرّة إلى أسفل‏.‏ والرّداء‏:‏ ما يستر من المنكب إلى أسفل‏.‏ وهذا كناية عن وصفهم بالعفّة؛ والعرب تكني بالشيء عمّا يحويه ويشتمل عليه، كقولهم‏:‏ ناصح الجيب، أي‏:‏ الفؤاد‏.‏ أراد أنّهم أخيار ذوو عفّة‏.‏

وهذا البيت أورده ابن قاسم في شرح الألفيّة على أنّ الطّيبي صفة مشبّهة مضافة إلى مضاف إلى الموصول‏.‏

وقوله‏:‏ إذا رجا الرّكب الخ ، التعريس‏:‏ النزول في آخر الليل للاستراحة والنوم‏.‏

وقوله‏:‏ بحيث تلحس ، أي‏:‏ في موضع لا نبات به ولا ماء‏.‏

وابن ليلى هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس ابن عبد مناف‏.‏ وليلى هي أمّه، وهي بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضيّ الله عنه‏.‏ والعرف ، بالضم‏:‏ المعروف‏.‏

وقوله‏:‏ إذ في وحشها غرر ، الغرر بالكسر‏:‏ جمع غرّة، وهي الغفلة‏.‏ يريد أن وحشها لا يدعرها أحد، فهي في غرّة من عيشها، يقال‏:‏ هو في غرّة من العيش، إذا كان في عيش ليس فيه كدر ولا خوف‏.‏ وأزمان‏:‏ نائب فاعل أعيد‏.‏ وأتيتهم خطاب لعمر بن عبد العزيز‏.‏ وضمير وحشها للمدينة المنوّرة‏.‏

قال ابن خلف‏:‏ مدح الفرزدق بهذا الشعر بن عبد العزيز‏.‏ وكان قد ولي المدينة‏.‏ يقول‏:‏ وما أعيد لأهل المدينة ولمن بها من قريش أزمانٌ مثل أزمان مروان في الخصب والسّعة، حتى وليت أأنت عليهم فعاد لهم مثل ما كانوا فيه من الخير حين كان مروان والياً عليهم، فأصبحوا بولايتك عليهم قد أعاد الله نعمتهم عليهم‏.‏

وقال الأعلم‏:‏ مدح بالشعر بني أميّة فقال‏:‏ كان ملك العرب في الجاهلية لغير قريش وسائر مضر، وكانوا أحقّ به لفضلهم على البسر، فقد أصبحوا والإسلام فيهم، فعاد إليهم ما رجع عن غيرهم بما كان واجباً لهم بفضلهم انتهى‏.‏

والمعنى هو الأوّل ويدلّ له قوله‏:‏ قد أعاد الله نعمتهم، فإنّ نعمتهم كانت منقطعة بعزل مروان وأعيدت أليهم بتولية عمر بن عبد العزيز عليهم، فإنّ العود رجوع الشيء إلى الشيء بعد انفصاله عنه‏.‏

وأمّا قوله‏:‏ فعاد إليهم بعد ما خرج عن غيرهم، فهذا انتقال لا عود‏.‏

وقوله‏:‏ قد أعاد الله نعمتهم ، هذه الجملة خبر صار‏.‏

والعجب من العيبيّ في قوله صار من الأفعال الناقصة، وجعله هذه الجملة حالاً مع أنه لم يعيّن الخبر‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الخامس والسبعون بعد المائتين

الوافر

لو أنّك يا حسين خلقت حرّ *** وما بالحرّ أنت ولا الخليق

على أن فيه دليلاً على جواز تقديم الخبر المنصوب، إذ الباء لا تدخل إلاّ على الخبر المنصوب‏.‏

وعلى هذا بني أبو عليّ والزمخشريّ امتناع دخولها على ما التميمية، وأجازه الأخفش‏.‏

قال أبو عليّ في إيضاح الشعر‏:‏ أمّا ما انشده بعض البغداديين‏:‏

أما والله عالم كل غيبٍ *** وربّ الحجر والبيت العتيق

لو أنّك يا حسين خلقت حرّ *** وما بالحرّ أنت ولا الخليق

فإنّه يكون شاهداً على ما حكاه أبو عمرو في نصب خبر ما مقدّ‏؟‏ما‏.‏ ومن دفع ذلك أمكن أن يقول إن الباء دخلت على المبتدأ، وحمل ما على أنها ما التميمية‏.‏ ويقوى أن ما حجازيّة أنّ أنت أخصّ من الحرّ، فهو أولى بأن يكون الاسم ويكون الحرّ الخبر‏.‏ انتهى‏.‏

أقول‏:‏ من يدفع ذلك يقول‏:‏ إنّ الباء زيدت في خبر ما التميمية، ولا يذهب أن مذخولها مبتدأ‏.‏ والصحيح أنّها تزاد في خبر ما على اللّغتين، وهو ظاره كلام سيبويه في باب الاستثناء في مسألة ما زيد بشيء إلاّ شيء لا يعبأ به‏.‏

قال الشاطبيّ في شرح الألفيّة‏:‏ والأصحّ ما ذهب إليه سيبويه من أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أنّ بني تميم يدخلونها فغي الخبر، فيقولون‏:‏ ما زيد بقائم، فإذا لم يدخلوها رفعوا‏.‏

قال ابن خروف‏:‏ إنّ بني تميم يرفعون ما بعدها بالابتداء والخبر، ويدخلون الباء في الخبر لتأكيد النفي‏.‏ ثم حكى عن الفرّاء أنّه قال‏:‏ أنشدتني امرأةٌ‏.‏

أما والله أن لو كنت حرّ *** وما بالحرّ أنت ولا العتيق

قال‏:‏ فأدخلت الباء فيما يلي ما‏.‏ فإن ألغيتها رفعت‏.‏ انتهى‏.‏

وقد أنشد سيبويه للفرزدق وهو تميمي‏:‏ الطويل

لعمرك ما معن بتارك حقّه *** ولا منسئٌ معنٌ ولا متيسّر

وهو كثير في أشعارهم لمن بحث عنه‏.‏

والثاني‏:‏ أن الباء إنما دخلت على الخبر بعد ما لكونه منفيّاً، لا لكونه خبراً منصوباً؛ ولذلك دخلت في خبر لم يكن ولم يدخل في خبر كنت‏.‏ وإذا ثبت أن المسوّغ لدخولها إنّما هو النفي فلا فرق بين منفي منصوب المحل ومنفيّ مرفوع المحل‏.‏

والثالث‏:‏ أنّه قد ثبت دخول الباء مع إبطال العمل ومع أداةٍ لا عمل لها البتة، نحو قوله‏:‏ المتقارب ‏.‏

لعمرك ما إن أبو مالكٍ *** بواهٍ ولا بضعيف قواه

وأنشد الفارسيّ في التّذكرة للفرزدق‏:‏ الطويل

يقول إذا اقلولى عليها وأقردت *** ألا هل أخو عيشٍ لذيذٍ بدائم

وإنّما دخلت بعد هل لشبهها بحرف النفي؛ فدخلوها بعد النفي المحض وهو ما التميميّة أحقّ‏.‏

قال ابن مالك‏:‏ لأن شبه ما بها أكمل من شبه هل بها‏.‏ ثم ذكر ما حكى الفرّاء عن كثيرٍ من أهل نجد‏.‏ أنهم يجرّون الخبر بعدما بالباء وإذا أسقطوا الباء رفعوا‏.‏

قال ابن مالك‏:‏ وهذا دليل واضحٌ على أن دخول الباء جارّة للخبر بعد ما لا يلزم منه كون الخبر منصوب المحل، بل جاز أن يقال هو منصوب المحلّ وأن يقال هو مرفوع المحلّ، وإن كان المتكلم به حجازياً، فإنّ الحجازيّ قد يتكلم بغير لغته وغيره يتكلّم بلغته‏.‏ إلاّ أنّ الظاهر أنّ محلّ المجرور نصبٌ إن كان المتكلم حجازياً، ورفعٌ إن كان تميمي ونجدياً‏.‏

قال‏:‏ فمن دخول اللغة التميمية في الحجازية كسر هاء الغائب بعد كسرة وياء ساكنة، وإدغام نحو‏:‏ ولا يضارّ كاتبٌ ولا شهيدٌ ورفع الله من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلاّ الله لأنّ اللغة الحجازيّة به وفيه بالضم، ولا يضارر بالفكّ، وإلاّ الله بالنصب لأنّ الاستثناء منقطع‏.‏

قال‏:‏ وإذا جاز للحجازيّ أن يتكلم باللغة التميميّة جاز للتميميّ أن يتكلم باللغة الحجازيّة، بل التميميّ بذلك أولى لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّ الحجازية أفصح، وانقياد غير الأفصح لموافقة الأفصح أكثر وقوعاً من العكس‏.‏

والثاني‏:‏ أنّ معظم القرآن حجازيّ والتميميّون متعبّدون بتلاوته كما أنزل، ولذلك لا يقرأ أحد منهم ما هذا بشر إلاّ من جهل كونه منزلاً‏.‏ هذا ما قاله، وفيه نظر لا يليق بهذا الموضع‏.‏ انتهى ما أورده الشّاطبي‏.‏

وروى الفرّاء هذا البيت في تفسيره كذا‏:‏

أما والله أن لو كنت حرّ *** وما بالحرّ أنت ولا العتيق

أنشده في سورة الجنّ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن استقاموا على الطّريقة ‏.‏

قال‏:‏ قد اجتمع الفرّاء على كسر إنّا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقالوا إنّا سمعنا قرآناً عجيباً واختلفوا فيما بعد ذلك فقرؤوا‏:‏ وأنا؛ وإنّا إلى آخر السورة، فكسروا بعضاً وفتحوا بعضاً‏.‏ فأمّا الذين فتحوا كلّها فإنّهم ردّوا أنّ على قوله‏:‏ فآمنا به وآمنا بكلّ ذلك، ففتحت أنّ لوقوع الإيمان عليها‏.‏

ويقويّ النصب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن لو استقاموا فينبغي لمن كسر أن يحذف أن من لو، لأنّ إنّ إذا خفّفت لم تكن في حكاية؛ ألا ترى أنّك تقول‏:‏ أقول لو فعلت لفعلت، ولا تدخل أن‏.‏

وأما الذين كسروا كلّها فهم في ذلك يقولون‏:‏ وأن لو استقاموا؛ فكأنهم أضمروا يميناً مع لو وقطعوها عن النسق، فقالوا‏:‏ والله ولو استقاموا‏.‏ والعرب تدخل أن في هذا الموضع مع اليمين وتحذفها، قال الشاعر‏:‏ الطويل فأقسم لو شيء أتانا رسوله وأنشدني آخر‏:‏

أما والله أن لو كنت حرّ *** وما بالحرّ أنت ولا العتيق

ومن كسر كلّها ونصب وأنّ المساجد لله خصّه بالوحي، وجعل وأن لو مضمرة فيها اليمين على ما وصفت لك‏.‏ انتهى‏.‏

وكذا أورده ابن هشام في المغني في بحث أن وجعلها زائدة، قال‏:‏ ومن مواضع زيادتها أن تقع بين لو وفعل القسم، مذكوراً كقوله‏:‏

فأقسم أن لو التقينا وأنتم ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ومتروكاً كقوله‏:‏

أما والله أن لو كنت حرّ *** وما بالحرّ أنت ولا العتيق

وهذا قول سيبويه وغيره‏.‏ وفي مقرب ابن عصفور‏:‏ أنّها في ذلك حرف جيء به لربط الجواب بالقسم‏.‏ ويبعده أنّ الأكثر تركها، والحروف الرابطة ليست كذلك انتهى‏.‏

ونقضه الدّمامينيّ باللام الداخلة على الجواب المنفيّ كقولك‏:‏ الوافر ولو نعطى الخيار لما افترقنا فإنّها حرف رابط، والأكثر تركها نحو‏:‏ ولو شاء ربّك ما فعلوه انتهى‏.‏

وأنشده المراديّ أيضاً كذا في شرح الألفيّة شاهداً على أنّ أن رابط لجواب القسم‏.‏

وقوله‏:‏ أما والله عالم كلّ غيب‏.‏‏.‏‏.‏ الخ أما بالتخفيف حرف تبينه يستفتح به الكلام، وجواب القسم محذوف أي‏:‏ لقاومتك، وفي بيتٍ آخر‏.‏

وقوله‏:‏ لو أنّك ، يقرأ بنقل فتحه الألف من أنّك إلى واو لو‏.‏ والحرّ من الرجال‏:‏ الكريم الأصل الذي خلص من الرّق مطلقاً، وساء كان رّق العبودية ورّق النفس، بأن تستخدمه في الرذّائل‏.‏ والخليق‏:‏ الجدير واللائق، أي‏:‏ ولا أنت جدير بأن تكون حرّاً‏.‏ والعتيق ، على رواية الفرّاء وغيره، هو الكريم والأصيل‏.‏ والذي خلص من الرقّ عتيق أيضاً‏.‏ ولذكره بجنب الحرّ حسن موقع‏.‏

وهذان البتان لم أعرف قائلهما‏.‏ وقال العينيّ في البيت الشاهد‏:‏ أنشده سيبويه، ولم يعزه إلى أحد‏.‏ أقول‏:‏ لم ينشده سيبويه ولا وقع في كتابه‏.‏ وصوابه أنشده الفرّاء فإنّه أوّل من استشهد به‏.‏ والله أعلم وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد السادس والسبعون بعد المائتين

المتقارب

لعمرك ما إن أبو مالك *** بوانٍ ولا بضعيف قواه

على أنّ الباء تزاد بعد ما النافية المكفوفة بإن اتفاقاً‏.‏ وهذا يدلّ على أنّه لا اختصاص لزيادة الباء في خبر ما الحجازيّة‏.‏

وهذا البيت أول أبياتٍ للمتنخّل الهذليّ يرثي بها أباه، وبعده‏:‏

ولا بألدّ له نازعٌ *** يغاري أخاه إذا ما نهاه

ولكنّه هيّنٌ ليّنٌ *** كعالية الرّمح عردٌ نساه

إذا سدته سدت مطواعةً *** ومهما وكلت إليه كفاه

ألا من ينادي أبا مالكٍ *** أفي أمرنا هو أم في سواه

أبو مالكٍ قاصرٌ قفره *** على نفسه ومشيعٌ غناه

وقوله‏:‏ لعمرك ما إن الخ اللام لام الابتداء، وفائدتها توكيد مضمون الجملة‏.‏ وعمرك ، بالفتح، بمعنى حياتك مبتدأ خبره محذوف، أي‏:‏ قسمي‏.‏ وجملة ما إن أبو مالك الخ جواب القسم، وأبو مالك هو أبو الشاعر‏.‏ واسمه عويمر، لأنّ المتنخّل اسمه مالك بن عويمر كما يأتي قريباً‏.‏

ولم يصب ابن قتيبة في كتاب الشعراء في زعمه أنه يرثي أخاه أبا مالك عويمراً‏.‏ وان‏:‏ اسم فاعل من ونى في الأمر ونى وونياً من بابي تعب ووعد، بمعنى ضعف وفتر‏.‏

وروي بدله واهٍ وهو أيضاً اسم فاعل من وهى من باب وعد، بمعنى ضعف وسقط‏.‏ والقوى‏:‏ جمع قوّة خلاف الضعف، قال في الصحاح‏:‏ ورجل شديد القوى، أي‏:‏ شديد أسر الخلق‏.‏ يريد أن أباه كان جلداً شهماً لا يكل أمره إلى أحد، ولا يؤخره لعجزه إلى وقت آخر‏.‏

وقوله‏:‏ ولا بألدّ الخ ، الألدّ‏:‏ الشديد الخصومة، من اللّدد بفتحتين وهو شدّة الخصومة‏.‏

قال السكّريّ في شرح أشعار هذيل هنا، وتبعه السيّد المرتضى في أماليه‏:‏ ومعنى له نازعٌ، أي‏:‏ خلق سوء ينزعه من نفسه - يريد أنه من نزعت الشيء من مكانه من باب ضرب بمعنى قلعته - ويجوز أن يكون من قولهم لعلّ له عرقاً نزع، أي‏:‏ مال بالشبه‏.‏ ويقولون أيضاً‏:‏ العرق نزّاع‏.‏ ونزع إلى أبيه ونحوه في الشبه، أي‏:‏ ذهب‏.‏ وهذا عندي أولى‏.‏

وقوله‏:‏ يغاري أخاه ، قال السكّريّ، وتبعه السيّد المرتضى‏:‏ أي‏:‏ يلاحي ويشارّ، من غاريت بين الشيئين، إذا واليت بينهما‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ وهو من غري بالشيء يغرى به‏.‏ أقول‏:‏ كونه من غري فلان إذا تمادى في غضبه أولى‏.‏ وروي بدله‏:‏ يعادي من العدواة ضدّ الصّداقة‏.‏ وهذا وما قبله كلاهما داخلان تحت النفي‏.‏

وقوله‏:‏ كعالية الرّمح الخ ، عالية الرمح‏:‏ ما دخل في السنان إلى ثلثه ومعنى‏:‏ كونه لينّا كعالية الرّمح، أنّه إذا دعي أجاب بسرعةٍ كعالية الرّمح، فإنه إذا هزّ الرّمح اضطرب وانهزّ للينه، بخلاف غيره من الأخشاب فإنه لا يتحرك طرفها إذا هزّت لصلابتها ويبسها‏.‏

وقوله‏:‏ عرد نساه ، العرد ، بفتح العين وسكون الراء المهملتين‏:‏ الشديد‏.‏ والضمير لأبي مالك‏.‏ والنّسا ، قال الأصمعيّ‏:‏ بالفتح مقصور‏:‏ عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين ثم يمرّ بالعرقوب حتّى يبلغ الحافر، فإذا سمنت الدابّة انفلقت فخذاها بلحمتين عظمتين وجرى النّسا بينهما واستبان‏.‏ وإذا هزلت الدابّة اصطربت الفخذان وماجت الرّبلتان وخفي النّسا‏.‏

وإذا قالوا‏:‏ إنّه لشديد النّسا فإنّما يريدون به النّسا نفسه، كذا في الصحاح ‏.‏ قال السكّريّ‏:‏ أراد غليظ موضع النسا‏.‏

وقوله‏:‏ إذا سدته سدت الخ قال السيّد المرتضى‏:‏ ومعنى سدته من المساودة التي هي المساررة، والسّواد هو السّرار، كأنه قال‏:‏ إذا ساررته طاوعك وساعدك‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو من السيادة فكأنّه قال‏:‏ إذا كنت فوقه سيّداً له طاوعك ولم يحسدك، وإن وكلت إليه شيئاً كفاك‏.‏

وقوم ينشدونه‏:‏ إذا سسته سست مطواعةً ولم أجد ذلك في رواية‏.‏ انتهى‏.‏

وهذه الرواية أثبتها أبو تمام صاحب الحماسة في مختار أشعار القبائل ‏.‏ وسته ، من سست الرعيّة سياسة‏.‏ والمطواع‏:‏ الكثير الطوع، أي‏:‏ الانقياد، والتاء لتأكيد المبالغة‏.‏

واقتصر السكّريّ على المعنى الثاني فقال‏:‏ يقول إذا كان لك السؤدد عليه أطاعك ولم يحسدك‏.‏ ومهما وكلت إليه، أي‏:‏ مهما تركته وإيّاه كفاه‏.‏ انتهى‏.‏

والسّواد بالكسر كالسّرار وزناً ومعنى‏.‏

وهذا البيت يأتي شرحه إن شاء الله في الجوازم‏.‏ وقوله‏:‏ أفي أمرنا هو الخ ، يعني غيبته عنا ألنفعنا كما كان تعوّد، أم لشيء آخر كالموت‏.‏ وهذا كلام المتولّه الذي حصل له ذهول لعظم ما أصابه‏.‏

وقال السكّريّ‏:‏ هذا منه توجّع؛ أراد من ينادي أبا مالك فيسأله أمضى أم قد ذهب، وأمره يصير إلينا أم يذهب‏؟‏ وقال الباهليّ‏:‏ أمرنا أمره‏.‏

وقوله‏:‏ قاصر فقره على نفسه ، هو من القصر وهو الحبس‏.‏ والمشيع‏:‏ من الإشاعة، وهي الإذاعة‏.‏ يريد أنّه إذا افتقر أخفى فقره، وإذا أثرى أذاع غناه ليقصد من كلّ جهة، وهذا من شرف النفس‏.‏

وهذه الأبيات على هذا الترتيب للمتنخّل الهذليّ رواها ابن قتيبة في كتاب الشعراء ، والسكّريّ في أشعار هذيل ، والسيّد المرتضى في أماليه والأصبهانيّ في أغانيه ‏.‏ وروى أبو تّمام في مختار أشعار البائل البيت الشاهد مع بيتين آخرين لذي الإصبع العدوانيّ هكذا‏:‏

وما إن أسيدٌ أبو مالكٌ *** بوانٍ ولا بضعيفٍ قواه

ولكنّه هيّنٌ ليّنٌ *** كعالية الرّمح عردٌ نساه

فإن سسته سست مطواعةً *** ومهما وكلت إليه كفاه

وأسيد ، بفتح الهمزة وكسر السين المهملة‏.‏ والمتنخّل ، بكسر الخاء المشددة اسم فاعل من تنخّل؛ يقال تنخّلته، أيّ‏:‏ تخيّرته كأنّك صفتيه من نخالته‏.‏ والمتنخل لقبٌ، واسمه مالك وهو جاهليّ‏.‏

ونسبته‏:‏ مالك بن عويمر بن عثمان بن خنيس بن عادية بن صعصعة بن كعب بن طابخة، أخو بني لحيان بن هذيل بن مدركه‏.‏ شاعرٌ محسّن من شعراء هذيل‏.‏

قال الآمديّ‏:‏ والمتنخّل السّعديّ شاعر أيضاً، ولم يقع إليّ من شعره شيءٌ ‏.‏ واستشهد الكسائيّ والفرّاء بقوله‏:‏ الكامل

يا زبرقان أخا بني خلفٍ *** ما أنت ويب أبيك والفخر

ومن شعر المتنخّل الهذليّ، أنشده أبو عبيد البكريّ في شرح نوادر القالي وليس موجوداً في رواية السكّريّ‏:‏ البسيط

لا ينسئ الله منّا معشراً شهدو *** يوم الأميلح لا عاشوا ولا مرحوا

عقّوا بسهمٍ فلم يشعر له أحدٌ *** ثمّ استفاؤوا وقالوا حبذا الوضح

قال البكريّ‏:‏ هذا من شعر يهجو به ناساً من قومه كانوا مع أبيه حجّاجاً يوم قتل‏.‏ وقوله‏:‏ لا ينسئ الله ،أي‏:‏ لا يؤخر الله موتهم؛ من الإنشاء وهو التأخير‏.‏

قال أبو العبّاس ثعلب‏:‏ التّعقية‏:‏ سهم الاعتذار‏.‏ قال ابن الأعرابيّ‏:‏ أصل هذا أن يقتل الرجل رجلاً من قبيلته فيطلب القاتل بدمه، فتجتمع جماعة من الرؤساء إلى أولياء المقتول بديةٍ مكملة ويسألونهم العفو وقبول الدية؛ فإن كان أولياؤه ذوي قوّة أبوا ذلك، وإلاّ قالوا لهم‏:‏ بيننا وبين خالقنا علامةٌ للأمر والنّهي؛ فيقول الآخرون‏:‏ ما علامتكم‏؟‏ فيقولون‏:‏ أن نأخذ سهماً فنرمي به نحو السماء، فإن رجع إلينا مضرّجاً بالدم فقد نهينا عن أخذ الدية، وإن رجع كما صعد فقد أمرنا بأخذها‏.‏ وحينئذ مسحوا لحاهم وصالحوا على الدية‏.‏ وكان مسح اللّحية علامةً للصّلح، قال الأسعر الجعفي‏:‏

عقّوا بسهمٍ ثمّ قالوا سالمو *** يا ليتني في القوم إذ مسحوا اللّحى

قال ابن الأعرابيّ‏:‏ ما رجع ذلك السّهم قطّ إلاّ نقيّاً، ولكنهم يعتذرون به عند الجهّال، انتهى‏.‏ وعقّوا ، بضم القاف وفتحها، لأنّه جاء من بابين فإنه يقال‏:‏ عقّ بالسهم إذا رمي به نحو السماء وذلك السهم يسمّى عقيقة بقافين، ويقال له أيضاً‏:‏ سهم الاعتذار‏.‏ فعقّوا بضم القاف‏.‏ ويقال‏:‏ عقّى بسهمه تعقية‏:‏ إذا رماه في الهواء‏.‏ فعقّوا بفتح القاف‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد السابع والسبعون بعد المائتين

الوافر

ندمت على لسان كان منّي *** فليت بأنّه في جوف عكم

على أنّ الباء قد تزاد بعد ليت كما هنا‏.‏

قال أبو زيد في نوادره‏:‏ الباء زائدة، والوجه فليت أنّه‏.‏

قال أبو عليّ في التذكرة القصرية‏:‏ وجه زيادة الباء في اسم ليت شبه ليت لنصبها ورفعها بالفعل، والفعل يصل تارةً بنفسه وأخرى بالباء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يعلم بأنّ الله يرى ، ويعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين ‏.‏

ومثله في أنه لما أشبه الفعل عديّ تعديته تارةً بنفسه وأخرى بحرف الجر يا زيد، وبالزيد‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهل يكون على إضمار اسم ليت كقوله‏:‏ الطويل

ألا ليت أنّي يوم تدنو منيّتي *** شممت الذي ما بين عينيك والفم‏؟‏

فغن ذلك لا يستقيم، لئلا يبتدأ بأنّ مفتوحة‏.‏

وسدّ الظرف في خبر أنّ مسدّ خبر ليت كما سدّ في قولك علمت أن زيداً في الدار مسدّ المفعول الثاني‏.‏ وجواز حذف الخبر في ليت وأنّ وبابه، بوقوع الجمل أخباراً لها‏.‏ انتهى‏.‏

وقال في الحجة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكنّ الشّياطين كفروا من سورة البقرة‏:‏ فأما ما أنشده أبو زيد‏:‏ ندمت على لسان فات منّي البيت فيحتمل أمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن تكون الباء زائدة وتكون أنّ مع الجارّ في موضع نصب، ويكون ما جرى في صلة أنّ قد سدّ مسدّ خبر ليت، كما أنّها في ظننت أنّ زيداً منطلق كذلك‏.‏ ويحتمل أن الهاء مرادة ودخلت الباء على المبتدأ كما دخلت في بحسبك أن تفعل ذلك‏.‏

ولا يمتنع هذا من حيث امتنع الابتداء بأنّ، لمكان الباء، ألا ترى أنّ أنّ قد وقعت بعد لولا في نحو قولك‏:‏ لولا أنّك منطلق، ولم يجر ذلك الامتناع مجرى أنّك منطلق بلغني، لأنّ المعنى الذي له لم يبتدأ بالمفتوحة - مع لولا - معدوم‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وروى شارح ديوان الحطيئة‏:‏ فليت بيانه ، فلا شاهد فيه‏.‏

وهذا البيت من أبيات للحطيئة قالها لأبي سهم عود بن مالك بن غالب‏.‏ وهي أربعة أبيات في ديوانه‏.‏

وكذلك قال أبو زيد في نوادره‏:‏ قال المفضّل لم أسمع غير هذه الأربعة الأبيات فيها ، وهي‏:‏

فيا ندمي على سهم بن عوذٍ *** ندامة ما سفهت وضلّ حلمي

ندمت ندامة الكسعيّ لمّ *** شريت رضا بني سهمٍ برغميّ

ندمت على لسانٍ فات منّي *** فليت بأنّه في جوف عكم

هنالكم تهدّمت الرّكاي *** وضمّنت الرّجا فهوت بذميّ

قوله‏:‏ فيا ندمي ، قال أبو عمر الجرمي‏:‏ أراد فيا ندامتاه، فحذف الهاء لما وصل الكلام‏.‏ ويروى‏:‏ يا ندمي بإسقاط الفاء‏.‏ وندامة بالنصب، وما مصدريّة أي‏:‏ ندامة سفهى، ويشهد له الرواية الأخرى وهي ندامة أن سفهت ، وقد رواها شارح ديوانه‏.‏ والسّفه‏:‏ طيشٌ وخفّة عقل‏.‏ والحلم ، بالكسر‏:‏ العقل‏.‏ والكسعيّ‏:‏ رجلٌ جاهليّ كانت له قوس رمى عليها باللّيل حميراً من الوحش، فظنّ أنه أخطأ - وكان قد أصاب - فغضب فكسرها، فلمّا أصبح رأى الحمير مجدلّةٌ فندم على كسر قوسه‏.‏ فضرب به المثل فقيل‏:‏ أندم من الكسعيّ ، و‏:‏ ندمت ندامة الكسعيّ ‏.‏

وشرح هذا المثل مفصّل في أمثال حمزة والميدانيّ والزمخشريّ‏.‏

وشريت هنا بمعنى بعت‏.‏ يقول‏:‏ بعت رضاهم برغمٍ منّي‏.‏

وقوله‏:‏ ندمت على لسان الخ قال شارح الديوان‏:‏ اللسان هاهنا الكلام فيكون مجازاً أطلق عليه اسم آلته‏.‏ وقال أبو زيد‏:‏ اللسان هاهنا المنطق‏.‏

وقال ابن الأنباريّ في شرح المفضّليات‏:‏ اللسان هاهنا الرسالة، أورده نظيراً لمطلع قصيدة مرقش الأكبر‏:‏ المتقارب

أتتني لسان بني عامرٍ *** فجلت أحاديثها عن بصر

وقد تكلّم أبو عليّ في الإيضاح الشعريّ على اللسان بكلام مبسوط على قول يزيد بن الحكم‏:‏ الطويل

لسانك لي أريٌ وعينك علقم *** وشرّك مبسوطٌ وخيرك ملتوي

وقد تقدم هذا البيت في قصيدته مشروحةً في الشاهد الثمانين بعد المائة فأحببت أن أورده هنا لحسنه، قال‏:‏ ليس يخلو اللسان من أحد المعنيين، إمّا أن يكون الجارحة، والتي بمعنى الكلام كقوله عزّ وجل‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسولٍ إلاّ بلسان قومه كأنّ المعنى‏:‏ بلغتهم‏.‏ ومما يقويّ ذلك إفراد اللسان حيث أريد به الحارجة، قال عزّ وجل‏:‏ ‏{‏واختلاف ألسنتكم وألوانكم ‏.‏

وأنشد أبو زيد‏:‏

ندمت على لسانٍ فات منّي *** فليت بأنّه في جوف عكم

فبهذا يعلم أنه لا يريد به الحارجة، لأنّ النّدم لا يقع على الأعيان، إنّما يقع على معانٍ فيها‏.‏ فإن قلت‏:‏ فقد قال‏:‏ فليت بأنّه في جوف عكم إنّما يكون العين‏.‏ قيل‏:‏ هذا اتّساع، وإنّما أراد فليته كان مطويّاً لم ينتشر؛ كما قال أوس‏:‏ البسيط

ليس الحديث بنهى بينهنّ ول *** سرّ يحدّثنه في الحيّ منشور

فليس المنشور هنا كقولك نشرت الثوب الذي هو خلاف طويته، وغنّما يريد إنه لا يذاع ولا يشاع، فاتسع‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ البسيط إنّي أتاني لسانٌ لا أسرّ به انتهى المراد منه‏.‏

وتقدّم بقيّة هذا على بيت ابن الحكم هناك‏.‏ ومراد أبي عليّ بالاتساع الاستخدام، فإنّ اللسان أريد بظاهره معنى وبضميره معنىً آخر، كقوله‏:‏ الوافر

إذا نزل السّماء بأرض قومٍ *** رعيناه وإن كانوا غضابا

وكان هنا تامة بمعنى حدث وجرى، ويروى بدله فات منّي ‏.‏ والعكم بكسر المهملة‏:‏ العدل، وقال شارح الديوان‏:‏ هو مثل الجوالق‏.‏

وقوله‏:‏ هنا لكم الخ أي‏:‏ عند ذلك القول الذي صدر منّي في حقهم‏.‏ والرّكاي‏:‏ الآبار، جمع ركيّ، ونائب فاعل ضمنت ضمير الرّكايا، والرّج‏:‏ مفعوله الثاني‏.‏

قال في الصحاح‏:‏ وكلّ شيء جعلته في في وعاء فقد ضمنته إياه‏.‏ والرّجا بالجيم، قال شارح الديوان‏:‏ هو جانب البئر من داخل؛ وجولها بالضم‏:‏ جوانبها من خارج‏.‏ والرّج‏:‏ النّاحية من كلّ شيء، قال أبو زيد‏:‏ الرّجا هنا بمعنى الأرجاء‏.‏

يريد أنه مفرد معرّف بللام وقع موقع الجمع، لأنّ البئر لها نواح‏.‏ يقول‏:‏ عندما صدر منّي قولٌ في حقهم كأنّ الآبار تهدّمت وسقطت عليّ بجميع نواحيها بسبب ذميّ‏.‏ وروى بذمّ بالتنكير‏.‏ قال شارح ديوانه‏:‏ أي‏:‏ بذمّ الرّكايا‏.‏

وقال أبو عليّ في التذكرة‏:‏ يقول، كالذي حفر بئراً وهو حين حفرها لم يقدّر أنها تقع على فساد، فلمّا أن حفرها وقع على فساد، فبناها على ذلك وتهدّم ما بنى، وكان قبل ذلك يأمل التمام لما يريد‏.‏ فمثل هذا لّما أن مدح على رجاء تمام للمدح فأخلف فهوى بذّم‏.‏ انتهى‏.‏

ثم رأيت ديوان الحطيئة جمع أبي سعيد السكّريّ من رواية محمد بن حبيب وقبل هذه الأبيات قصيدةٌ في ذمّ بني سهم بن عوذ بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس - وهم بنو عمّه - منه‏:‏ الطويل

ولو وجدت سهمٌ على الغيّ ناصر *** لقد حلبت فيه زماناً وصرّت

ولكن سهماً أفسدت دار غالبٍ *** كما أعدت الجرب الصّحاح فعّرت

قال السكّريّ‏:‏ كان من حديث هذه القصيدة أنّ بني مالك بن غالب - وهم رهط الحطيئة - وبني سهم بن عوذ بن مالك بن غالب أغاروا، وفيهم سمير المخزوميّ، ورئيسهم قدامة بن علقمة، ومعهم المسّيب - على هوازن فأصابوا سبياً وإبلاً؛ فتنازع المسيّب وسمير في الإبل، فأمرته بربع منها، فأخذه فوجده بعد أنجب بعير في الناس وهو الرّواح ‏.‏

ثم إن سميراً خرج بنفر من قومه حتّى أتوا الإبل فأطردوها؛ وقال الوليدة‏:‏ أخيري مولاك أنه قد ذهب بالإبل فلما أتى المسيّب الخبر ركب بأصحابه فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل منهم أربعة نفر، وذهب بها سمير‏.‏

وكان قال هذه الأبيات قبل أن يذهب بها سميرً، فلما ذهب بها سمير، ندم الحطيئة مما قال، فقال‏:‏ فيا ندمي على سهم بن عوذٍ الأبيات الأربعة قال السكّريّ‏:‏ أراد باللسان الشعر، يريد‏:‏ وددت أنّ الشعر الذي قلت فيهم كان مخبوءاً في جوالق‏.‏ والرّج‏:‏ ما بين رأس البئر إلى أسفلها، فجعله هاهنا أسفلها‏.‏

وقوله‏:‏ وضمنت الرّجا ، يريد أنّها تهدّمت فصار أعلاها في أسفلها‏.‏ فلذلك جعل جعل أسفلها تضمّن أعلاها‏.‏ وهذا مثل‏.‏ وهوت بذمّ‏:‏ سقطت مذمومة انتهى كلامه‏.‏

وترجمة الحطيئة قد تقدّمت في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثامن والسبعون بعد المائتين

وهو من شواهد س‏:‏ الطويل

مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة *** ولا ناعب إلاّ يبين غرابها

على أنّ ناعبٍ عطف بالجرّ على مصلحين المنصوب على كونه خبر ليس لتوهّم الباء، فإنّها تجوز زيادها في خبر ليس ، ويسمّى هذا في غير القرآن العطف على التوهمّ، وفي القرآن العطف على المعنى‏.‏

وأنشده سيبويه ف يموضعين بروايتين، الأول أنشده ولا ناعباً بالنصب للعطف على مصلحين؛ استشهد به على نصب عشيرة ب مصلحين لأنّ النون فيه بمنزلة التنوين في واحده، وكلاهما يمنع من الإضافة ويوجب نصب ما بعده‏:‏ والثاني بجرّ ناعب على توهّم الباء في خبر ليس‏.‏

ولم يجز المبّرد إلاّ نصب ناعب، قال‏:‏ لأنّ حرف الجر لا يضمر‏.‏

وقد بيّن سيبويه ضعفه، وبعده‏:‏ مع أخذه لذلك عن العرب سماعاً، فلا معنى للردّ عليه‏.‏

وأورده صاحب الكشّاف نظيراً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنّ الرّسول حقّ قال‏:‏ شهدوا معطوف على ما في إيمانهم من معنى الفعل، فهو من قبيل عطف الفعل على المصدر بتقدير أن؛ إذ المعنى بعد أن آمنوا وشهدوا، كما جرّ الشاعر ناعباً بتوهّمك الباء في خبر ليس‏.‏

وهذا البيت من قصيدةٍ عدّتها ستّة وعشرون بيتاً، للأخوص اليربوعيّ وهذه أبيات منها أنشدها الجاحظ في كتاب البيان ‏:‏

وليس بيربوع إلى العقل حاجةٌ *** سوى دنس يسودّ منه ثيابها

فكيف بنوكى مالكٍ إن غفرتم *** لهم هذه أم كيف بعد خطابها

مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة *** ولا ناعب إلاّ يبين غرابها

فإن أنتم لم تقتلوا بأخيكم *** فكونوا غايا بالأكف عيابها

سيخبر ما أحدّثتم في أخيكم *** رفاقٌ من الآفاق شتّى إيابها

قال أبو محمد الأسود الأعرابيّ في فرحة الأديب‏:‏ هذا الشعر لقتال كان بين بني يربوع، وبين بني دارم‏.‏ فأراد بقوله مشائيم بني دارم بن مالك، لا بني يربوع‏.‏

وكان من قصة هذا الشعر، أنّ ناساً من بني يربوع وبني دارم اجتمعوا على القرعاء، فقتل بينهم رجلٌ من بني غدانة يكنى أبا بدر، فقالت بنو يربوع‏:‏ والله لا نبرح حتّى ندرك ثأرنا‏!‏ فقالت بنو دارم‏:‏ إنّا لا نعرف قاتله، فأقيموا قسامةً نعطيكم حقّكم‏.‏

فقالت بنو غدانة‏:‏ نحن نفعل‏.‏ فأخرجوا خمسين فحلفوا كلّهم إلاّ رجلاً‏:‏ أنّ الذي قتل أبا بدرٍ عبيد بن زرعة؛ فقال الباقي من الخمسين‏:‏ أليس تدفعون إلينا عبيداً إذا أنا أكملت الخمسين‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، ولكنّا نديه، لأنّا لا ندري من قتله‏.‏ فقال الباقي عند ذلك، وهو أبو بيض الغدانيّ‏:‏ والله لا أكملهم أبداً، ولا يفارقنا عبيد حتّى نقتله‏!‏ فقام ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وشيبان بن حنظلة بن بشر بن عمرو فكفلا بعبيد؛ فدفعته بنو غدانة إليهما، فلما جنّهم اللّيل قال ضرار وشيبان لعبيد‏:‏ انطلق حيث شئت‏.‏

وغدت بنو غدانة على بني دارم؛ فقالوا لهم‏:‏ إنّ صاحبكم قد هرب ولكن هذه ولكن هذه الدّية، فاقبلوها من إخوتكم، ولا تطلبوا غير ذلك، فتكونوا كجادع أنفه، ولو علمنا مكان صاحبكم قصدنا إليه‏.‏ فلمّا سمعهم الأخوص يذكرون الدية، قال‏:‏ دعوني أتكلّم يا أبا خولة‏.‏ فقال هذه الأبيات من قصيدة‏.‏

قوله‏:‏ وليس بيربوع إلى العقل الخ ، يقول‏:‏ إنّ العقل لا ينفعهم، بل يضرّهم ويكسبهم عاراً‏.‏ ونوكى‏:‏ بالفتح جمع أنوك، كأحمق وحمقى، وزناً ومعنى، أي‏:‏ كيف العشرة معهم‏.‏ ويروى بدل خطابها سبابها بالكسر‏:‏ مصدر سابّه، أي‏:‏ شاتمه‏.‏ ومشائيم‏:‏ جمع مشؤوم كمقصور، قال في الصحاح وقد شأم فلان قومه يشأمهم فهو شائم‏:‏ إذا جرّ عليهم الشؤم؛ وقد شئم عليهم فهو مشؤوم‏:‏ إذا صار شؤماً عليهم، وقوم مشائيم‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

وقال السيد المرتضى رحمه الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ العرب لا تعرف هذا، وإنّما هو من كلام أهل الأمصار‏.‏ وإنّما تسميّ العرب من لحقه الشّؤم مشؤوماً، كما في قول علقمة بن عبدة‏:‏ البسيط

ومن تعرّض للغربان يزجره *** على سلامته لا بدّ مشؤوم

وعشيرة الرجل‏:‏ بنو أبيه الأدنون‏.‏ قال الأعلم‏:‏ نسبهم إلى الشؤم وقلّة الصلاح والخير، فيقول‏:‏ لا يصلحون أمر العشيرة إذا فسد ما بينهم، ولا يأتمرون بخير، فغرابهم لا ينعب إلاّ بالتشتيت والفراق‏.‏

وهذا مثل للتعصّم منهم والتشؤّم‏.‏ والنّعيب بالعين المهملة‏:‏ صوت الغراب ومدّه عنقه عند ذلك؛ ومنه يقال ناقة نعوب‏:‏ إذا مدّت عنقها في السير‏.‏

وقال ابن السيرافيّ في شرح شواهد إصلاح المنطق‏:‏ يقال نعب الغراب‏:‏ إذا صاح‏.‏ وهم يتشاءمون بصوت الغراب‏.‏

وإنّما ذكر هذا على طريق المثل وإن لم يكن غراب، كما يقال فلان مشؤوم الطائر، ويقال طائر الله لا طائرك‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن خلف‏:‏ وقولهم‏:‏ أشأم من غراب البين فإنّما لزمه هذا الاسم لأنّ الغراب إذا بان أهل الدار لنجعةٍ وقع في مواضع بيوتهم يتلمس ما يأكله؛ فتشاءموا به وتطيّروا منه، إذ كان لا يعتري منازلهم إلاّ إذا بانوا، فسمّوه غراب البين‏.‏

ثم كرهوا إطلاق ذلك الاسم مخافة الزّجر والطيرة، فعلموا أنّه نافذ البصر صافي العين، حتى قالو‏:‏ أصفي من عين الغراب كما قالو‏:‏ أصفى من عين الديك ، فسمّوه الأعور كنايةً، كما كنّوا عن الأعمى فسمّوه أبا بصير، وكما سمّوا الملدوغ سليماً، والفيافي مفاوز‏.‏ وهذا كثير‏.‏

ومن أجل تشاؤمهم بالغراب اشتقوا من اسمه الغربة، والاغتراب، والغريب‏.‏ وليس في الأرض شيء مّما يتشاءمون به إلاّ الغراب عندهم أنكد منه‏.‏

وذكر بعض أصحاب المعاني أن نعيب الغراب يتطيّر منه ونغيقه يتفاؤل به، وأنشد قول جرير الكامل

إنّ الغراب بما كرهت مولعٌ *** بنوى الأحبّة دائم التّشحاج

ليت الغراب غداة ينعب دائب *** كان الغراب مقطّع الأوداج

ثم أنشد في النّغيق‏:‏ الوافر

تركت الطّير عاكفةً عليه *** وللغربان من شبعٍ نغيق

قال‏:‏ ويقال نغق الغراب إذا قال‏:‏ غيق غيق‏.‏ فيقال نغق بخير‏.‏ ونعب نعيباً‏.‏ إذا قال غاق غاق‏.‏ فيقال عندها نعب ببين‏.‏ قال‏:‏ ومنهم من يقول نغق ببين وأنشد في ذلك‏:‏ البسيط

أبقى فراقهم في المقلتين قذىً أمسى بذاك غراب البين قد نغقا

قال‏:‏ وبعض العرب قد يتيمنّ بالغراب فيقال‏:‏ هم في خيرٍ لا يطار غؤابه أي‏:‏ يقع الغراب فلا ينفّر، لكثرة ما عندهم فلولا تيمنّهم به لكانوا ينفّرونه‏.‏

وقال الدافعون لهذا القول‏:‏ الغراب في هذا المثل السواد، واحتجوا بقول النابغة‏:‏ الكامل

ولرهط حرّاب وزيدٍ سورةٌ *** في المجد ليس غرابها بمطار

أي‏:‏ من عرض لهم، لم يمكنه أن ينفّر سوادهم لعزّهم وكثؤتهم‏.‏

وقوله‏:‏ فكونوا بغايا الخ ، البغايا جمع بغيّ، يقال‏:‏ بغت المرأة بغاء بالكسر والمد، أي‏:‏ زنت فهي بغيٌّ‏.‏ والعياب ، بكسر المهملة‏:‏ جمع عيبة بفتحها وهي ما يجعل فيه الثياب‏.‏

وقوله‏:‏ سيخبر ما أحدثتم الخ ، المآب‏:‏ المرجع، أي‏:‏ إذا رجعت الرفاق تفرّقت في كل وجه وانتشر فيهم قبح صنيعكم، ونقله من سمعه إلى من لم يسمعه‏.‏

والأخوص، بالخاء المعجمة، يقال‏:‏ رجل أخوص بيّن الخوص، أي‏:‏ غائر العينين، وقد خوص بالكسر، وأما الأحوص، بالحاء المهملة، فليس هذا، وكثيراً ما يصحف به‏.‏ والحوص‏:‏ ضيق في مؤخر العين‏.‏

قال الآمديّ في المؤتلف والمختلف‏:‏ الأخوص، بالخاء المعجمة، اسمه زيد ابن عمرو بن قيس بن عتّاب بن هرميّ بن رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، شاعر فارس‏.‏

وهو القائل‏:‏ الطويل

وكنت إذا ما باب ملكٍ قرعته *** قرعت بآباءٍ ذوي شرفٍ ضخم

بأبناء عتّابٍ وكان أبوهم *** إلى الشّرف الأعلى بآبائه ينمي

وهم ملكوا الأملاك آل محرّقٍ *** وزادوا أبا قابوس رغماً على زعم

وقادوا بكرةٍ من شهاب وحاجبٍ *** رؤوس معدّ في الأزمّة والخطم

أنا ابن الذي ساد الملوك حياته *** وساس الأمور بالمروءة والحلم

وكنّا إذا قومٌ رمينا صفاتهم *** تركنا صدوعاً بالصّفاة التي نرمي

حمينا حمى الأسد التي لشبوله *** تجرّ من الأقران لحماً على لحم

ونرعى حمى الأقوام غير محرّمٍ *** علينا ولا يرعى حمانا الذي نحمي

وله في كتاب بني يربوع أشعارٌ جياد مما تنخلّته من قبائلهم‏.‏ انتهى‏.‏

وكتب أبو محمد بن عبد الله ابن برّيّ النّحوي في هامشه أنّ صاحب المؤتلف والمختلف لم يذكر الأخوص الرياحي، وهو قيس بن زيد بن عمرو بن عتاب ابن رياح‏.‏ قال‏:‏ ومن شعره‏:‏

مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة *** ولا ناعب إلاّ يبين غرابها

وفيه أن الأخوص الرّياحيّ نسب تارةً إلى جدّه الأدنى وهو رياح، وتارة إلى جدّه الأعلى وهو يربوع‏.‏

وقدّم ابن برّيّ بعض الأسماء على بعضها والصواب ما أثبته الآمديّ‏.‏

ويؤيده ما قاله ياقوت في مختصر جمهرة الأنساب ، فإنّه لما ذكر أولاد هرميّ ابن رياح قال‏:‏ ومنهم عتّأب بن هرميّ بن رياح، وهو ردف النّعمان والمنذر أبيه‏.‏

ومن ولده الأخوص الرّياحيّ إسلامي‏.‏ والله أعلم‏.‏

ثم رأيت في ضالّة الأديب لأبي محمد الأعرابيّ شعراً له يتعلق بإبل الصدقة فعلم أنّه إسلاميّ وهو معاصر لسحيم بن وثيل‏.‏

وانشد بعده‏:‏ الوافر

معاري إنّنا فأسجح *** فلسنا بالجبال ولا الحديدا

على أنّ قوله الحديدا معطوف على محل قوله بالجبال، فإنّه ف يمحل نصبٍ، لأنّه خبر ليس، والباء زائدة‏.‏ ومعاوي‏:‏ منادى مرخّم معاوية بن أبي سفيان‏.‏ وأسجح بفتح الهمزة وكسر الجيم‏:‏ فعل أمر بمعنى ارفق وسهّل‏.‏

وقد تقدّم شرحه مفصّلاً في الشاهد التاسع والسبعون بعد المائتين‏:‏ المنسرج

إن هو مستولياً على أحد *** إلاّ على أضعف المجانين

على أن المبرد أجاز إعمال إن النافية عمل ليس، واستشهد بهذا البيت‏:‏ فهو اسمها، ومستولياً خبرها‏.‏

وإن كما النافية الحجازية في الحكم، لا تختص في العمل بنكرةٍ دون معرفة، بل تعمل فيهما‏.‏

قال ابن هشام في المغني‏:‏ أجاز الكسائيّ والمبرّد إعمال إن عمل ليس، وقرأ سعيد بن جبير‏:‏ إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم بنون خفيفة مكسورة لالتقاء الساكنين، ونصب عباداً وأمثالكم‏.‏

وسمع من أهل العالية‏:‏ إن أحدٌ خيراً من أحد إلاّ بالعافية‏.‏ وإنّ ذلك نافعك ولا ضارّك‏.‏ انتهى‏.‏

وقال في شرح شواهده‏:‏ كذا خرّج ابن جنّي قراءة سعيد بن جبير، فظنّ أبو حيّان أن تخريجها على ذلك يوقع في تناقص القراءتين، فإنّ الجماعة يقرؤون بتشديد النون وفتحها ورفع عباد وأمثالكم، وذلك إثبات، وقراءة سعيد على هذا التخريج نفيٌ‏.‏ فخرّجها على أنّها المؤكدة خفّفت ونصبت الجزأين كقوله‏:‏ الطويل إنّ حرّاسنا أسدا

ولم يثبت الأكثرون إعمالها النصب في الجزأين وتأوّلوا ما أوهم ذلك‏.‏ ثم إن القائلين به لم يذكروه إلاّ مع التشديد، لا مع التخفيف‏.‏ ثمّ إنّ التناقص الذي توهّمه مدفوع، لأنّهم أمثالهم في أنهم مخلوقون وليسوا أمثالهم في الحياة والنطق‏.‏

وقراءة سعيد على هذا التخريج أقوى في التشنيع عليهم من قراءة الجماعة، ويؤيدها ما بعدها من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألهم أرجل يمشون بها ‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن الشجريّ في أماليه‏:‏ إذا كانت إن نافية فسيبويه لا يرى فيها إلاّ رفع الخبر‏.‏ وإنّما حكم بالرفع لأنّها حرف جحد يحدث معنى في الاسم والفعل كألف الاستفهام، وكما لم تعمل ما التميميّة، وهو رفاقٌ للقياس‏.‏ ولما خالف بعض العرب القياس فأعملوا ما، لم يكن لنا أن نتعدّى القياس في غير ما، وغير سيبويه أعمل إن على تشبيهها بليس كما استحسن ذلم ف يما، واحتجّ بأنه لا فرق بين إن وما في المعنى؛ إذ هما لنفي ما في الحال، وتقع بعدهما جملة الابتداء كما تقع بعد ليس‏.‏

وأنشد‏:‏

إن هو مستولياً على أحدٍ *** إلاّ على حزبه الملاعين

وهو قول الكسائيّ والمبرّد‏.‏ ووافق الفرّاء في قوله سيبويه‏.‏ انتهى‏.‏

وروي العجز أيضاً‏:‏ إلا على حزبه المناحيس قال ابن هشام‏:‏ وفي البيت شاهد على مسألة أخرى، وهي أن انتفاض النفي بعد الخبر لا يقدح في العمل‏.‏

ومثله في ذلك قول الآخر‏:‏ الطويل

إن المرء ميتاً بانقضاء حياته *** ولكن بأن يبغي فيخذلا

وهذا الشاهد مع كثرة دورانه في كتب النحو لم يعلم له قائل‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو